كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر سبحانه وتعالى النظر في آيات الافاق أتبعها آيات الأنفس بقوله تعالى: {وفي خلقكم} أي: خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن صار إنسانًا المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والأنتشار والقدرة على السار والضار {وما} أي: وخلق ما {يبث} أي: ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية على سبيل التجدد والاستمرار {من دابة} مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزيئات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والطبائع والمنافع وغير ذلك {آيات} دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته.
وقرأ حمزة والكسائي آيات بكسر التاء حملًا على اسم إن. والباقون بالرفع حملًا على محل إن واسمها. ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف قال تعالى: {لقوم} أي: فيهم أهلية القيام بما يحاولونه {يوقنون} أي: يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان فلا يخالجهم شك في وحدانيته.
{واختلاف الليل والنهار} بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره {وما أنزل الله} أي: الذي تمت عظمته فنفذت كلمته {من السماء من رزق} أي: مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق {فأحيا به} أي: بسببه {الأرض} أي: الصالحة للحياة ولذلك قال تعالى: {بعد موتها} أي: يبسها وتهشيم ما كان فيها من النبات {وتصريف} أي: تحويل {الرياح} باختلاف جهاتها وأحوالها.
وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد. والباقون بالجمع وقوله تعالى: {آيات} فيه القراءتان المتقدمتان. أما الرفع فظاهر وأما الكسر ففيه وجهان؛ أحدهما: أنها معطوفة على اسم إن والخبر قوله: {وفي خلقكم} كأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات. والثاني: أن تكون كررت تأكيدًا لآيات الأولى ويكون {في خلقكم} معطوفًا على {في السموات} كرر معه حرف الجر توكيدًا. ونظيره أن تقول: إن في بيتك زيدًا وفي السوق زيدًا فزيدًا الثاني تأكيد للأول كأنك قلت: إن زيدًا زيدًا في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطف على معمولي عاملين ألبتة.
ولما كانت هذه الآية أوضح دلالة من بقيتها على البعث قال تعالى فيها {لقوم يعقلون} الدليل فيؤمنون وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفًا فقال: إن المنصفين إذا نظروا في السموات والأرض وأنه لابد لهما من صانع آمنوا وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيمانًا فأيقنوا. فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم.
ولما ذكر هذه الآيات العظيمات قال تعالى مشيرًا إلى علورتبتها بأداة البعد:
{تلك} أي: الآيات المذكورة {آيات الله} أي: حجج المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجل منها الدالة على وحدانيته {نتلوها} أي: نقصها {عليك} سواء أكانت مرئية أو مسموعة ملتبسة {بالحق} أي: الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله ليس بسحر ولا كذب {فبأي حديث} أي: خبر عظيم صادق يتجدد علمه به يستحق أن يتحدث به واستغرق كل حديث فقال تعالى: {بعد الله} أي: حديث الملك الأعظم وهو القرآن {وآياته} أي: حججه {يؤمنون} أي: كفار مكة أي: لا يؤمنون. وقرأ ابن عامر وشعبة والكسائي بتاء الخطاب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {نتلوها عليك بالحق}. والباقون بياء الغيبة ردوه على قوله تعالى: {وفي خلقكم} وهو أقوى تبكيتًا.
ولما بين الآيات للكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها بعد ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون؟ أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال تعالى: {ويل لكل أفاك} أي: مبالغ في صرف الحق عن وجهه {أثيم} أي: مبالغ في اكتساب الإثم وهو أن يبقى مصرًا على الأنكار والاستكبار. قال المفسرون: يعني النضر ابن الحارث والآية عامة فيمن كان موصوفًا بهذه الصفة وفسر هذا بقوله تعالى: {يسمع آيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها {تتلى عليه} بجميع ما فيها وهي القرآن من سهو لة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز وهي القرآن العظيم. فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق. وقرأ حمزة والكسائي بإمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {ثم يصر} أي: يدوم دوامًا عظيمًا على قبح ما هو فيه حال كونه {مستكبرًا} أي: طالبًا للكبر عن الإذعان وموجدًّا له {كأن} أي: كأنه {لم يسمعها} أي: حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء {فبشره} أي: على هذا الفعل الخبيث {بعذاب أليم} أي: مؤلم. والبشارة على الأصل أو التهكم. وقرأ ابن كثير وحفص {أليم} بالرفع والباقون بالجر.
{وإذا علم} أي: بلغه {من آياتنا} أي: القرآن {شيئًا} وعلم أنه من آياتنا {اتخذها هزوًا} أي: مهزوًا بها.
تنبيه:
في الضمير المؤنث وجهان؛ أحدهما: أنه عائد على {اياتنا} يعني القرآن. والثاني: أنه يعود على {شيئًا} وإن كان مذكرًا لأنه بمعنى الآية كقول أبي العالية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ** الله والقائم المهدي يكفيها

لأنه أراد بشيء جاريةً يقال لها: عنبة. والمعنى: اتخذ ذلك الشيء هزوًا إلا أنه تعالى قال: {اتخذها} للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد وقوله تعالى: {أولئك لهم عذاب مهين} أي: ذوإهانة إشارة إلى معنى {كل أفاك أثيم} (الشعراء).
ليدخل فيه جميع الأفاكين. فحمل أولا على لفظها فأفراد ثم على معناها فجمع كقوله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم).
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب فقال: {من ورائهم} أي: أمامهم لأنهم في الدنيا {جهنم} قال الزمخشري: والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أوقدام قال:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ** أدبّ مع الو لدان أزحف كالنسر

ومنه قوله تعالى: {من ورائهم} أي: من قدامهم. اهـ. ثم بين تعالى أن ما سلكوه في الدنيا لا ينفعهم بقوله تعالى: {ولا يغني} أي: ولا يدفع {عنهم ما كسبوا} من الأموال في رحلهم ومتاجرهم والأولاد {شيئًا} من الإغناء.
وقوله تعالى: {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} أي: من الأوثان عطف على {ما كسبوا} و{ما} فيهما إما مصدرية. أوبمعنى الذي أي: لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه {ولهم عذاب عظيم} أي: لا يدع جهة من جهاتهم ولا زمانًا من أزمانهم ولاعضوًا من أعضائهم إلا ملأه. فإن قيل: قال تعالى في الأول {مهين} وفي الثاني {عظيم} فما الفرق بينهما؟
أجيب: بأن كون العذاب مهينًا يدل على حصو ل العذاب مع الإهانة. وكونه عظيمًا يدل على كونه بالغًا إلى أقصى الغايات في الضرر وقوله تعالى: {هذا هدى} إشارة إلى القرآن يدل عليه قوله تعالى: {والذين كفروا بآيات ربهم} هي القرآن أي: هذا القرآن كامل في الهداية كما تقول: زيد رجل أي: كامل في الرجو لية وأيما رجل {لهم عذاب} كائن {من رجز} أي: شديد العذاب {أليم} أي: بليغ الإيلام.
ولما ذكر تعالى ذكر الربوبية ذكر بعض اثارها وما فيها من آياته فقال مستأنفًا دالًا على عظمتها بالاسم الأعظم:
{الله} أي: الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال {الذي سخر} أي: وحده من غير حو ل منكم ولا قوة في ذلك بوجه من الوجوه {لكم البحر} أيها الناس بركم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير فيه من الرقة والليونة {لتجري الفلك} أي: السفن {فيه بأمره} أي: بإذنه ولوكانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها. ففي ذلك دلالة ظاهرة على وحدانيته لأن جريان الفلك على وجه الماء لا يحصل إلا بثلاثة أشيئاء؛ أحدها: الرياح التي توافق المراد. وثانيها: خلق وجه الماء على الملامسة التي تجري عليها الفلك. وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغرق فيه. وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر {ولتبتغوا} أي: تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص على اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك {من فضله} لم يصنع شيئًا منه سواه {ولعلكم تشكرون} نعمه على ذلك.
{وسخر لكم ما في السموات} من شمس وقمر ونجم بها وغير ذلك بحيث لا يمكنكم الوصو ل إليه بوجه {وما في الأرض} من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره ولوشاء لجعله كما في السماء لا وصو ل لكم إليه وقوله تعالى: {جميعًا} توكيد لما دل عليه معنى ما من العموم وقيل: حال من {ما في السموات وما في الأرض} وقوله تعالى: {منه} حال أي: سخرها كائنة منه تعالى لا صنع لأحد غيره في شيء من ذلك. قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه. وقال الزجاج: كل ذلك تفضل منه وإحسان. وقال بعض العارفين: سخر لك الكل لئلا يسخرك لشيء منها فتكون مسخرًا لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من تسخيره لنا كل شيء في الكون {لآيات} أي: دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا {لقوم} أي: ناس فيهم أهلية القيام بما يجعل إليهم {يتفكرون} فيعلمون أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئًا واختلف في سبب نزل قوله تعالى: {قل} أي: يا أفضل الخلق {للذين آمنوا} ادعوا التصديق بكل ما جاءهم عن الله تعالى: {يغفروا} أي: يستروا سترًا بالغًا {للذين لا يرجون أيام الله} أي: مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفة الكمال. فقال ابن عباس: «نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها: المريسيع. فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر: قعد على طرف البئر فما ترك أحدًا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر رضي الله عنه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية».
وقال مقاتل: إن رجلًا من بني غفار شتم عمر بمكة فهم عمر أن يبطش به. فنزلت بالغفر والتجاوز. وروى ميمون بن مهران: أن فتحاص اليهودي لما نزل قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضًاحسنًا} (البقرة) قال: احتاج رب محمد فسمع ذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فرده.
وقال القرطبي والسدي: (نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت). ثم نسختها آية القتال. قال الرازي: وإنما قالوا بالنسخ لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يقتلوا ولا يقاتلوا. فلما أمر الله تعالى بالمقاتلة كان نسخًا والأقرب أن يقال إنه محمول على ترك المنازعة وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية. وقال ابن عباس: لا يرجون أيام الله أي: ثوابه ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الماضية وتقدم تفسير أيام الله عند قوله تعالى: {وذكرهم بأيام الله} (إبراهيم).
وقوله تعالى: {ليجزي قومًا بما كانوا يكسبون} علة للأمر. والقوم: هم المؤمنون أو الكافرون أوكلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع أولكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون لنجزي نحن بما لنا من العظمة. والباقون بالياء التحتية أي: ليجزي الله سبحانه وتعالى.
ولما رغب سبحانه وتعالى ورهب وقرر أنه لابد من الجزاء زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال تعالى شارحًا للجزاء:
{من عمل صالحًا} قل أوجل {فلنفسه} أي: خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا والآخرة وهو مَثَل ضربه الله تعالى للذين يغفرون {ومن أساء} كذلك {فعليها} خاصة إساءته كذلك. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين. وذلك في غاية الظهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكًا يدع عبيده من غير جزاء ولاسيما إذا كان حكيمًا. وإن كانت نقائص النفوس غطت على كثير من العقول ذلك {ثم} أي: بعد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ {إلى ربكم} أي: الملك المالك لكم لا إلى غيره {ترجعون} أي: تصيرون فيجازي المصلح والمسيء.
{ولقد آتينا} أي: على ما لنا من العظمة {بني إسرائيل الكتاب} أي: الجامع للخيرات وهو يعم التوراة والأنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم عليهم السلام {والحكم} أي: العلم والعمل الثابتين ثبات الأحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل وللعمل من الإتقان بالعلم {والنبوة} التي تدرك بها الخيرات العظيمة التي لا يمكن إبلاغ الخلق إليها بلوغ اكتساب منهم فأكثرنا فيهم من الأنبياء عليهم السلام.
{ورزقناهم} بما لنا من العظمة لإقامة أبدانهم {من الطيبات} أي: الحلالات من المن والسلوى وغيرهما {وفضلناهم} أي: بما لنا من العزة {على العالمين} قال أكثر المفسرين: علامي زمانهم. وقال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم. أي: لما اتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء مما لم يفعله بغيرهم ممن سبق وكل ذلك فضيلة ظاهرة.
{وآتيناهم} مع ذلك {بينات من الأمر} أي: الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ومن صفات الأنبياء الاتين بعدهم وغير ذلك مما هو في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته. وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافًا يسيرًا لا يضر مثله ولا يعد اختلافًا. فلما جاءهم العلم اختلفوا كما قال تعالى: {فما اختلفوا} أي: أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: الذي من شأنه الجمع على المعلوم فكان ما هو سبب الاجتماع سببًا لهم في الافتراق {بغيًا} أي: للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرياسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس {بينهم} أي: واقعًا فيهم لم يعدهم إلى غيرهم وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل. ولذلك استأنف قوله تعالى الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أمرهم مؤكدًا لأجل إنكارهم {إن ربك} أي: المحسن إليك {يقضي بينهم} أي: بإحصاء الأعمال والجزاء عليها {يوم القيامة} أي: الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك {فيما كانوا} أي: لما هو لهم كالجبلة {فيه يختلفون} بغاية الجهد. والمعنى: أنه لا ينبغي للمبطل أن يفرح بنعم الدنيا فإنها وإن ساوت نعم المحق أوزادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه وذلك كالزجر لهم.
ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغيًا وحسدًا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق فقال تعالى: {ثم} أي: بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم {جعلناك} أي: بما لنا من العزة والقدرة {على شريعة} أي: طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدأة {من الأمر} أي: أمر الدين الذي هو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح {فاتبعها} أي: اتبع بغاية جهدك شريعتك الثابتة بالحجج {ولا تتبع أهواء} أي: اراء {الذين لا يعلمون} أي: لا علم لهم أولهم علم لكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلًا من كفار العرب وغيرهم. قال الكلبي: (إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى دين ابائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية). ثم علل هذا النهي مهددًا بقوله تعالى مؤكدًا: {إنهم} وأكد النفي فقال عز من قائل {لن يغنوا عنك} أي: لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدأ {من الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {شيئًا} أي: من إغناء أي: إن اتبعتهم. كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم {وإن الظالمين} أي: الغريقين في هذا الوصف وهم الكفرة. وكان الأصل: وإنهم ولكنه تعالى أظهر للإعلام بوصفهم {بعضهم أولياء بعض} إذ الجنسية علة الأنضمام فلا توالوهم باتباع أهوائهم {والله} أي: الذي له صفات الكمال {وليّ المتقين} أي: الذين همهم الأعظم الاتصاف باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله تعالى. والمعنى: أن الظالمين يتو لى بعضهم بعضًا في الدنيا وأما في الآخرة فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب. وأما المتقون المهتدون فالله سبحانه وليهم وناصرهم.